اقتصادخاص الفجر الجديد

حين يُصاب الدولار بالشيخوخة: الذهب يعود من الهامش إلى المركز

بقلم لبنى عويضة

لسنوات طويلة، هيمن الدولار الأميركي كعملة احتياطية على النظام المالي العالمي، لكنه اليوم يواجه تآكلاً متزايدًا في الثقة، بفعل طباعة نقدية ضخمة، ديون سيادية متراكمة، ورفع متكرر لأسعار الفائدة. وسط هذه التحديات، يعود الذهب بقوة إلى الواجهة كأصل استراتيجي لا يتأثر بتقلبات العملات الورقية ولا بمخاطر السياسات النقدية.

فعلى سبيل المثال، سجّل الربع الثاني من عام 2025 ارتفاعًا في الطلب العالمي على الذهب بنسبة 3% ليصل إلى 1,249 طنًا، فيما ارتفعت القيمة الإجمالية للطلب بنسبة 45% لتبلغ 132 مليار دولار مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. لم يعد الذهب مجرد “ملاذ آمن”، بل تحوّل إلى أداة تحوّط استراتيجية تعتمدها قوى كبرى مثل الصين وروسيا وتركيا لتعزيز سيادتها المالية وتقليل انكشافها على الدولار.

الذهب كأصل سيادي لا مجرد سلعة

تجاوز الذهب اليوم دوره التقليدي كمخزن للقيمة ليصبح أداة جيوسياسية واقتصادية تُعيد رسم ملامح النظام النقدي العالمي. في ظل تصاعد التوترات الدولية والتشكيك المتزايد في استدامة الدولار، تبرز دعوات لاعتماد نظام نقدي جديد يرتكز على سلة من الأصول الصلبة، يكون الذهب أحد أعمدتها.

وقد شهدت صناديق الاستثمار المدعومة بالذهب تدفقات قوية بلغت 170 طنًا في الربع الثاني من عام 2025 – أعلى مستوى منذ مطلع 2020 – ما يعكس تجدد ثقة المستثمرين بالذهب كأصل آمن وفعّال.

نماذج دولية ناجحة: كيف عزّزت بعض الدول اقتصاداتها بالذهب؟

احتفظت ألمانيا بأعلى احتياطي ذهب في أوروبا (أكثر من 3,300 طن)، ودمجته في استراتيجيتها النقدية لدعم العملة واستقرار السوق المالي.

أما روسيا فقد ضاعفت احتياطياتها وخفضت اعتمادها على الدولار، ما ساعدها على مقاومة العقوبات الخارجية وتعزيز استقلالها النقدي.

وبالنسبة لسويسرا، فهي تستخدم الذهب كركيزة لاستقرار البنك المركزي، ما يساهم في صمودها خلال الأزمات المالية الأوروبية.

هذه النماذج توضح كيف يُمكن للإدارة الرشيدة للذهب أن تدعم السياسات النقدية وتُحصّن الاقتصادات الوطنية.

لبنان والذهب: ثروة معطّلة وأفق ممكن

يمتلك لبنان حوالي 286.8 طنًا من الذهب (ما يقارب 9.25 مليون أونصة)، تقدر قيمتها الحالية بحوالى 30.39 مليار دولار – أي ما يشكّل 32.2% من إجمالي أصول مصرف لبنان. هذا المخزون يضعه في المرتبة 19 عالميًا والثانية عربيًا، إلا أن هذه الثروة لا تزال خارج نطاق التوظيف الفعلي في دعم الاقتصاد المنهار.

مع تراجع احتياطي العملات الأجنبية إلى 11.11 مليار دولار في نهاية أيار 2025، يكتسب الذهب أهمية متجددة كدعامة للاستقرار النقدي وركيزة لاستعادة الثقة.

الذهب كمنقذ اجتماعي واقتصادي

لم يقتصر تأثير الذهب في لبنان على الاقتصاد الكلي، بل تعدّاه إلى الأسر اللبنانية. آلاف المواطنين لجأوا إلى شراء الذهب كملاذ من انهيار الليرة، مما ساعد في حماية قدرتهم الشرائية.

أما في القطاع المصرفي، فبالرغم من وجود الذهب كأصل آمن، فإن غياب استراتيجية وطنية واضحة أضعف من دوره المحتمل في تعزيز السيولة واستعادة ثقة المودعين. وقد يكون تحويل الذهب إلى أدوات مالية مدعومة أو عملات رقمية مستقرة خطوة استراتيجية نحو بناء اقتصاد أكثر مرونة.

الذهب كورقة سياسية وجيوسياسية
تتحول احتياطيات الذهب في المرحلة الراهنة إلى عنصر نفوذ سياسي بامتياز، يتجاوز وظيفته كأصل مالي ثابت أو ملاذ آمن. فالدول الكبرى، وعلى رأسها الصين وروسيا، كثّفت شراءها للذهب في السنوات الأخيرة بهدف تقليص اعتمادها على النظام المالي العالمي القائم على هيمنة الدولار الأميركي، ما يشكّل خطوة استراتيجية لفك الارتباط مع مراكز الضغط الغربية. في المقابل، يبدو المشهد في الشرق الأوسط أكثر تشابكًا، حيث يتقاطع الذهب مع ملفات معقّدة تتعلق بالطاقة والنفوذ الإقليمي، مما يجعله أداة قابلة للاستخدام في سياقات تفاوضية أو حتى توتر سياسي. وضمن هذا الإطار الجيوسياسي، يبرز موقع لبنان كبلد يقع في قلب هذه التوازنات الحساسة، لكنه يفتقر حتى اللحظة إلى رؤية استراتيجية أو قرار سيادي واضح في كيفية توظيف مخزونه الذهبي، سواء في دعم الاستقرار الداخلي أو تحسين موقعه التفاوضي إقليميًا ودوليًا.

نهاية البترودولار وصعود “الذهب الاقتصادي”

تشهد أسواق الطاقة تحولات بنيوية مع سعي دول مثل الصين وروسيا ودول الخليج إلى التخلي التدريجي عن تسعير النفط بالدولار، والبحث عن بدائل أكثر استقرارًا كالتسوية بالذهب أو العملات المدعومة بأصول.

هذا التحول قد يرسم نظامًا نقديًا جديدًا، تكون فيه الأصول الحقيقية، وفي طليعتها الذهب، المرجعية المالية الكبرى.

وماذا عن لبنان؟

على لبنان أن يتحرّك من موقع المراقب إلى صانع القرار. الذهب ليس مجرد احتياطي يُسجّل في ميزانية المصرف المركزي، بل يمكن أن يتحول إلى منصة لإعادة بناء الثقة، دعم العملة، أو حتى إطلاق عملة رقمية وطنية مستقرة.

مع أسعار الذهب التي تتراوح في 2025 بين 3,272 و3,312 دولارًا للأونصة، والتوقعات بأن تلامس 3,675 دولارًا في نهاية العام، فإن استغلال هذا الأصل أصبح ضرورة لا خيارًا.

الذهب كسياسة مستقبلية

بين عالم تتآكل فيه العملات الورقية، وصعود الذهب كرمز للثقة والسيادة، تقف الدول أمام مفترق طريق: إما أن تتبنّى الذهب ضمن رؤيتها الاستراتيجية، أو تظل عُرضة للانكشاف أمام كل أزمة مالية مقبلة.

أما لبنان، فتبقى الكرة في ملعبه السياسي. فإما أن يظل مخزون الذهب مجرد رقم مُجمّد، أو أن يتحوّل إلى قاعدة انطلاق نحو اقتصاد أكثر قوة، سيادة، وثقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى