الفجر الجديد

الميناء في مهبّ الانقسام: نداء العقل لإنقاذ ما تبقى من النسيج الأهلي

الكاتبة: سمر قرة

في لحظةٍ دقيقة من عمر مدينة الميناء، حيث يفترض أن تتقد الحياة بحماسة الاستحقاق الديمقراطي البلدي، خيّم على الأجواء ظلّ ثقيل من الانقسام، وانفلتت المشاعر من عقالها، حتى باتت تهدّد ما تبقى من روابط اجتماعية لطالما شكّلت صمّام الأمان لهذه المدينة البحرية المميزة والعريقة.

لقد بدأت ملامح الاستحقاق البلدي تبشّر بفرصة لتجديد الحياة العامة، إلا أنّ ما يحصل على الأرض نقيض للتطلعات: فمعركة قاسية، معلنة تارةً ومستترة تارة أخرى، طاولت القيم قبل الأشخاص، واستهدفت النسيج الأهلي بأكثر مما استهدفت المقاعد.

انقسم الشارع الميناوي على ذاته. تصدّعت وشائج الأخوة وتحوّل الجار إلى خصم، والصديق إلى ندّ. لم يسلم أحد من رصاص الشائعات، ولا من سهام القيل والقال التي تقتات على الفتات، وتزدهر في تربة الانفعال والاحتقان.

لم يتورّع البعض عن نبش الماضي واستحضار الأموات، لا لتكريم ذكراهم، بل للتشهير بالأحياء. تعدّينا الخصومة السياسية إلى خوضٍ مؤذٍ في الخصوصيات، مسخّرين الظنون أدوات طعن، والريبة ذرائع حرب.

وهنا يطرح السؤال نفسه: لمَ كلّ هذا؟ أهو التقاتل على مقاعد بلدية، مهما علا شأنها، تظلّ زائلة؟ إذا كنا نستنكر على السياسيين الكبار تعميق الانقسام في الوطن، فكيف نبرّره على مستوى حيّ أو شارع؟ وكيف نطلب من الدولة أن تتّسع لأبنائها إذا كنا لا نحتمل اختلافًا بين الجيران؟

في قلب هذا الاحتدام، يغيب صوت العقل، وتُنسى بديهيات الديمقراطية: أن نحترم الرأي الآخر، ونقبل نتائج الانتخابات، ونفصل بين العام والخاص. فليس من العدل أن نقيّم المرشحين من منطلق حياتهم الشخصية، بل من خلال برامجهم، أخلاقهم، سلوكهم في الشأن العام، ومدى التزامهم بخدمة الناس.

إنّ الحق في التعبير والاختيار هو أساس العملية الديمقراطية. ولا ضير أن نختلف، شريطة أن يبقى اختلافنا تحت سقف الاحترام. فهذه المعركة الانتخابية ستنتهي، وسيعود الجميع – ناجحين وخاسرين – إلى مقاعد المقاهي، وإلى أزقّة الألفة التي جمعتهم يومًا في الفرح كما في الحزن. سيمضي موسم الانتخابات، وستبقى الميناء، بأهلها وتاريخها، وبحارتها وكُتابها، على حكمة من لم يفرّط بروحها الجماعية.

لذا، فإننا نطلق هذا النداء باسم الميناء، وباسم الوفاء لها، وباسم الأخوّة التي جمعتنا طيلة عقود. فلنترفّع عن الصغائر، ولنحتكم إلى القيم التي تربّينا عليها: الكرامة، التسامح، المروءة، والصدق. فلنحفظ “شعرة معاوية” بيننا، لأن الانتخابات تزول، أمّا الجيرة والمحبّة والجذور، فهي التي تبقى.

هذه لحظة اختبار حقيقي للوعي الجماعي. فلنحوّل الاستحقاق إلى فرصة لتعميق وحدتنا بدل تمزيقها، ولنثبت أننا أبناء مدينة تعرف كيف تختلف من دون أن تنقسم، وتتنافس من دون أن تتناحر. فلنحمل المسؤولية بحكمة، ولنجعل من الميناء منارة للمدن، لا ساحة صراع يعبث بها الغضب ويشوّهها الطيش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى