إيران وإسرائيل: من صراع الرسائل إلى كسر قواعد الاشتباك

إيران وإسرائيل: من صراع الرسائل إلى كسر قواعد الاشتباك
بقلم وسيم فؤاد الأدهمي
خاص الفجر الجديد
حين تُفتح أبواب النار على مصراعيها بين إيران وإسرائيل، فإن ما يبدو ردود فعل متبادلة بصواريخ دقيقة ومدروسة، يخفي تحولات بنيوية أعمق من مجرد تصعيد عسكري متوقع. المشهد ليس مجرد حلقات متتالية من الضرب والرد، بل إنه بداية لتغيير في قواعد اللعبة نفسها، تضع المنطقة أمام استحقاقات جديدة، وتضع الكيان الصهيوني على خطوط التماس مع تهديدات لم يسبق أن اجتمعت بهذا النسق.
العملية الإيرانية الأخيرة التي استهدفت عمق إسرائيل لم تكن ارتجالاً تحت تأثير الصدمة من اغتيال قيادات عسكرية، بل تنفيذ دقيق لردّ تمّ التمهيد له على مدى سنوات. الصواريخ التي ضربت تل أبيب وحيفا ليست مجرد رسائل نارية بل خريطة نار جديدة. تل أبيب كمركز قرار سياسي ودبلوماسي، وحيفا كبوابة بحرية استراتيجية، تمثلان ما يشبه قلب الكيان النابض. استهدافهما هو بالضبط نزع غطاء الأمان عن “العمق” الإسرائيلي الذي طالما ظل في منأى عن الحسابات اليومية للصراع.
هذه المرة، لا تخوض إسرائيل حرباً مع “ذراع” من أذرع إيران أو تنظيماً غير رسمي، بل مع الدولة ذاتها، من مركزها الإقليمي الصلب. حرب مباشرة قد لا تكون شاملة بعد، لكنها غير مسبوقة من حيث التماثل في القوة والعزم.
الرد الإيراني أتى في وقت كانت إسرائيل تحاول فيه ترتيب أولوياتها في ظل تعدد الجبهات، لكن يبدو أن هذه المحاولة أُجهضت قسراً.
وقف إطلاق النار في لبنان، وتجميد نسبي للعمليات في سوريا، لم يمنحا الكيان أي طمأنينة حقيقية، بل كشفا هشاشته حين لا تكون معاركه موجهة ضد أطراف مشتتة.
الأخطر من ذلك أن الهجوم الإيراني لم يكن وحيداً. فقد انخرطت جماعة أنصار الله في اليمن في تنسيق عملياتي لافت، بما يشبه فتح جبهة موازية عبر الجنوب. هذه الضربات التي عطّلت الملاحة البحرية الإسرائيلية وأغلقت مطار بن غوريون، ليست رمزية، بل فاعلة ميدانياً واستراتيجياً. أن تكون طهران وصنعاء ترميان في آن واحد على نفس الأهداف تقريباً، هو إعلان صريح عن ولادة محور جديد لا يخشى التصعيد المتعدد الأطراف.
الرد الإسرائيلي بدا، رغم عنفه، أشبه باجترار لأسطوانة قديمة. الخطاب حول البرنامج النووي الإيراني بات مكرّراً ولا يقنع أحداً بأن “الخطر النووي” وحده هو الدافع. إسرائيل تعرف أن إيران النووية، إن وصلت، لن تهاجمها بالصواريخ الذرية، لكن ما تخشاه فعلاً هو توازن الردع الذي سيمنعها من التمادي في استباحة الأجواء الإقليمية دون عقاب.
المفارقة أن هذه المواجهة تأتي في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إعادة ترميم موقعها الدولي وسط أزمات كبرى في أوكرانيا وآسيا. إدارة بايدن، أو حتى المرشح الأقوى ترامب، تجد أن ضبط هذا التصعيد فرصة لإعادة رسم شروط التفاوض مع إيران. لكن واشنطن تتصرف دوماً بوصفها طرفاً ثالثاً، تحاول ضبط الإيقاع لا المشاركة فيه، وهو ما قد يفقدها تدريجياً تأثيرها الفعلي، إن لم تحسم خيارها الاستراتيجي في المنطقة.
ما يجري اليوم ليس فصلاً طارئاً في الحرب المفتوحة منذ عقود، بل هو تحول نوعي يحمل ملامح شرق أوسط مختلف. الكيان الصهيوني، الذي لطالما اعتبر التفوق العسكري ضمانة لبقائه، يواجه اليوم واقعاً لم يألفه: العمق لم يعد آمناً، والردود ليست مرهونة بحسابات الربح والخسارة بل بشبكة تحالفات لا يملك مفاتيحها.
في هذا السياق، لا يمكن إلا التذكير بأن فلسطين تظل جوهر كل هذه المعادلة. ما يغيّر قواعد الاشتباك ليس فقط القوة العسكرية لإيران أو لليمن أو لحزب الله، بل تحوّل القضية الفلسطينية من شأن “محلي” إلى بوصلة إقليمية تعيد تعريف العداء. وهذا التحول، وإن بدا بطيئاً، هو ما يجعل من صمود غزة، وانتفاضات الضفة، والمقاومة الشعبية في الداخل، مادة الاشتعال الكبرى لكل ما يحدث.
من الواضح أن إسرائيل أفرطت في حساب قوتها وأهملت ديناميكيات المنطقة الجديدة، معتقدة أن الوقت كفيل بإنهاك الخصوم. لكن ما يحدث يشي بعكس ذلك تماماً: الإرهاق يتسرب إلى مؤسستها العسكرية، وإلى جبهتها الداخلية، حتى صارت تستنجد بواشنطن لا لتحسم المعركة بل لتجمّدها. أما إيران، رغم الحصار والتضييق، فقد أمسكت بخيوط الصراع علناً.
الصراع لم يعد حول من يُسقط صواريخ الآخر، بل من يفرض معادلاته على أرض مشتعلة، من طهران إلى غزة.




