حين يتحول البؤس إلى “بيزنس”: نظرة في عمق اقتصاد التسول

بقلم الاعلامية لبنى عويضة
لم يعد التسول مجرد يد ممدودة في الخفاء، بل تحول أمام أعيننا إلى ما يشبه “الصناعة” الكاملة؛ اقتصاد خفي له قواعده، يُدار في الشوارع والميادين. ما نراه اليوم هو تحويل لمشاعر الشفقة والتعاطف الإنساني إلى “سلعة” تباع وتشرى، وتدر أرباحاً هائلة بعيداً عن أعين الرقابة والضرائب، وقودها بشرٌ دفعتهم الظروف للحافة.
هذا المشهد ليس عبثياً، بل هو نتاج مباشر لتآكل الدخل وغلاء المعيشة الذي طحن الطبقات المحدودة. حينما تعجز الرواتب عن سد الرمق، وتغيب شبكات الأمان الحكومية، يصبح “الرصيف” هو البنك البديل للفقراء. والأخطر من ذلك، هو دخول “مافيا” منظمة على الخط، تستغل ضعف الأطفال وحاجة النساء، فتحولهم إلى أعداد في آلة لجمع المال، في مشهد موثق بتقارير لا حصر لها.
هكذا تشكّل ما أصبح يُعرف بـ”اقتصاد التسول”، وهو شبكة من الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية التي تنشط في الشوارع والساحات العامة. يشمل هذا الاقتصاد أشكالاً متعددة، بدءًا من التسول الفردي، مرورًا بالشبكات المنظمة، ووصولًا إلى أنماط متخفية وراء خدمات تبدو اجتماعية، لكنها في جوهرها استغلال للتعاطف الإنساني. يقوم هذا الاقتصاد على رأسمال بشري هش، ويحوّل عاطفة الناس وتعاطفهم إلى سلعة قابلة للتسعير، فيما تتداول الإيرادات بعيدًا عن أي رقابة ضريبية أو مؤسسية.
ما الثمن الذي ندفعه؟ الثمن ليس فقط المال الذي يُدفع كصدقة، الثمن هو اقتصاد موازٍ يكبر في الظل، وجيل كامل يتربى على الرصيف بلا تعليم وبلا مهارات، ليصبح وقوداً دائماً للفقر والجريمة بدلاً من أن يكون قوة منتجة.
اتسعت هذه الظاهرة مع تراجع القدرة الشرائية وتآكل الدخل الحقيقي، إذ تُجبر الأجور المنخفضة وغياب مصادر الكسب المستقرة الأسر محدودة الدخل على البحث عن وسائل يومية للبقاء، ما أضحى يُعرف بـ«مدخرات الرصيف». ومع انهيار شبكات الحماية الاجتماعية وغياب الدعم الرسمي، تصبح هذه الأسر سهلة الانزلاق نحو الاعتماد على الشارع، ما يمهّد المجال لتجارة واستغلال الأطفال والنساء عبر خلايا منظمة تستثمر هشاشتهم لإجبارهم على العمل أو جمع الصدقات.
نماذج التسول في الشارع متعددة، كل منها له تكاليفه وعوائده: من التسول الفردي لأشخاص فقدوا مصادر دخلهم، إلى التسول المنظم عبر شبكات تشبه “شركات صغيرة” تحدد حصصًا يومية وتجمع أرباحًا خارج القانون، وصولًا إلى التسول المموّه الذي يتخفّى وراء خدمات تبدو مجتمعية، وحتى التسول الموسمي الذي يزداد في المناسبات والأعياد. تشمل التكاليف النقل والطعام والمبيت المؤقت، وأحيانًا دفع عمولات للمشغّلين، لتتحول مشاهد الشارع إلى نشاط اقتصادي يمكن تقدير إيراداته رغم طابعه غير الرسمي.
ان الاقتصاد الموازي هو سرطان ينهش في جسد الدولة؛ فهو يضيع عليها موارد ضريبية، ويشوه سوق العمل، لكن الكارثة الحقيقية تكمن في المستقبل: جيل كامل من الأطفال يغادر المدارس ليتعلم “فنون الاستجداء” بدلاً من المهارات الحقيقية. نحن هنا لا نتحدث فقط عن فوضى في الشارع، بل عن تدمير منهجي لرأس المال البشري.
معالجة الظاهرة تتطلب رؤية شاملة تجمع بين السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية. يمكن البدء بتحويلات نقدية مباشرة للأسر الأكثر هشاشة، مصحوبة بآليات رقابية تمنع الاستغلال، إلى جانب برامج تشغيل مؤقتة في صيانة الطرق والنظافة والبنى المحلية لتوفير فرص عمل بسيطة. كما يجب فتح مسارات تعليمية للأطفال المتعثرين، مع برامج غذائية ودعم نفسي وحماية قانونية، وتفكيك الشبكات المنظمة مع إعادة تأهيل من كانوا جزءًا منها لتجنب أي استغلال لاحق. ان إدماج جزء من الاقتصاد غير الرسمي عبر تراخيص بسيطة للباعة المتجولين ومنحهم منصات رسمية مؤقتة، واستخدام نظم رقمية لتسجيل المستفيدين وتوجيه الدعم بسرعة، يساعد على ضبط التدفقات النقدية وتقليل الفوضى.
بالمقابل، فإن القياس الدوري لتأثير هذه الإجراءات يصبح ضرورة حيوية، عبر مؤشرات لرصد انخفاض الأطفال في الشارع، وتحسن الدخل البديل للأسر، ونجاح إعادة تأهيل الضحايا، ونسبة عودة الأطفال إلى المدارس واستمراريتهم. هذه البيانات تمكّن صانعي القرار من تصميم استجابات دقيقة وتحويل الظاهرة من مشكلة اجتماعية إلى تحدٍّ اقتصادي قابل للحل.
التسوّل ليس قضية أخلاقية فحسب، بل مرآة لاقتصاد منهك ونظام اجتماعي عاجز. التعامل معه كمسألة أمنية فقط سيعمّق الأزمة، بينما معالجته كاقتصاد موازي يحتاج إلى خطة شاملة تشمل حماية اجتماعية، خلق عمل لائق، حماية الأطفال، تفكيك الشبكات، وإدماج عناصر الاقتصاد غير الرسمي في مسارات شرعية. رؤية متكاملة تعيد للشارع أسرته، وللدولة قدراتها، وتستعيد الطفولة حقها في التعلم واللعب والعيش بكرامة، حيث التقنيات والتمويل الدولي والبيانات أدوات متاحة، والتأخير في التدخّل يعني اعتماد اقتصاد جديد لا يخدم سوى مستثمري البؤس.




