أزمة الإعلام العربي في خدمة قضاياه …

خاص الفجر الجديد
بقلم غسّان حلواني
يعكس الفشل الإعلامي العربي في كسب الرأي العام العالمي لقضية فلسطين، تداخُل عوامل بنيوية تتعلق ببنية الإعلام نفسه، والهيمنة الغربية، والتحيزات الثقافية. يمكن تحليل هذه الإشكالية عبر نظريات الإعلام والسياسة والاجتماع، والتي تُظهر كيف تُشكل القوة الناعمة، والأطر الإعلامية، والهياكل السلطوية، والرواية العالمية.
في نظرية تحليل الإطار الإعلامي (Framing Theory) – يقول عالم الاجتماع الأميركي “إيرفينغ غوفمان Erving Goffman “إنّ الإعلام لا ينقل الحقائق بل “يُؤطرها” عبر اختيار زواية معينة لتقديم القصة” . وهذا حال الإعلام العربي الذي يُؤطّر الصراع كقضية “تحرر من استعمار” و”دفاع عن المقدسات”، مستخدمًا لغة عاطفية ودينية (مثل “شهداء”، “أقصى”)، وهو ما يجد صدًى محدودًا في الغرب الذي يرفض الخلط بين السياسة والدين.
فيما الإعلام الغربي/الإسرائيلي: يُؤطرها كـ”صراع بين إرهاب ومقاومة شرعية”، مستنداً إلى مصطلحات مثل “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” .وفق تحليل عالم الإعلام الأميريكي (روبرت ماثيو إنتمان (Robert Mathew Entman في كتابه (إسقاطات القوة) (Projections of Power)، يشير إلى أن التأطير الغربي ينجح لأنه يرتبط بسياق ثقافي غربي كـ (التركيز على الأمن الفردي وحقوق الإنسان الانتقائية)، بينما يُهمش السياق التاريخي للاحتلال.
المراقب و المتابع للإعلام الغربي يستطيع أن يدرك دون جهد أنّ الإعلام خاضع لمصالح النخب السياسية والاقتصادية، ويُنتج خطابًا يدعم الهيمنة. فهو يتبنى رواية إسرائيل بسبب تحالف النخب السياسية الأمريكية مع اللوبي الإسرائيلي (كما يشرح عالم السياسة جون ميرشايمر في كتاب The Israel Lobby)، ويُهمش الرواية الفلسطينية. بينما يفتقد الإعلام العربي الى الاستقلالية، إذ يُستخدم كأداة دعاية للأنظمة ، مما يُضعف مصداقيته الدولية. و يرى الفيلسوف الأميركي (نعوم تشومسكي) أن “الإعلام الحر” وهمٌ، وأن الهيمنة الأمريكية تتحكم في السردية العالمية لصالح إسرائيل.
(القارىء العزيز، من المهم الإطلاع على نموذج الدعاية(Propaganda) هو نموذج مفاهيمي في الاقتصاد السياسي طوّره إدوارد إس.هيرمان ونعوم تشومسكي، ويشرح كيف تعمل الدعاية والتحيزات المؤسسية في وسائل الإعلام المؤسسية. يسعى النموذج لشرح كيفية التلاعب بالشعوب وكيف «يُصنع» قبول السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الخارجية منها والمحلية، في ذهن الجماهير بفضل هذه الدعاية. تفترض النظرية أن الطريقة التي تُشكل فيها مؤسسات الإعلام (مثلًا من خلال الإعلانات، والتركيز على ملكية وسائل الإعلام والاستعانة بمصادر حكومية) تُسبب تعارضًا متأصلًا للمصالح وتعمل بالتالي بمثابة دعاية للعناصر المناهضة للديمقراطية).
إنّ الثقافة الغربية تهيمن على العالم عبر تصدير قيمها عبر الإعلام، مما يُضعف الثقافات المحلية، وإنّ جزءاً كبيراً من مشكلة العرب الإعلامية هو ضعف البدائل العربية و غياب منصات عربية دولية مؤثرة . هيمنة المنصات الغربية: مثل CNN و BBC تُشكل وعي العالم بلغة القانون الدولي الانتقائي (التركيز على “حقوق إسرائيل” وتجاهل حقوق الفلسطينيين). يؤكّد الفيلسوف الأميريكي ” هربرت شيلر” في كتابى( نظرية الإمبريالية الثقافية )أن الهيمنة الإعلامية تعكس الهيمنة السياسية، مما يجعل الرواية العربية “هامشية”.
في العصر الرقمي عصر المجتمع الشبكي، القوة الإعلامية تُحدَّد بالقدرة على التحكم في تدفق المعلومات عبر الشبكات. و من يسيطر على الشبكات، يسيطر على الرواية ،كما يقول عالم الاجتماع الأسباني مانويل كاستيلس المتخصص في مجتمع المعلومات والتواصل والعولمة في كتابه (قوة الإتصال – communication Power).
إنّ تفوق إسرائيل الرقمي يأتي من إستثمارها في الحرب السيبرانية، والتأثير على منصات مثل تويتر وإنستغرام عبر حسابات مدروسة كما جاء على لسان المؤرخ الإسرائيلي “يوفال هراري”، في تحليلاته عن الصراعات الحديثة. بينما يعتمد الإعلام العربي على خطاب تقليدي (خطب، مقالات، تقارير تلفزيونية)، ولا يستغل خوارزميات الذكاء الاصطناعي أو الحملات الرقمية المُستهدفة.
يقول عالم السياسة الأمريكي “جوزيف ناي” في كتابه “القوة الناعمة”، أنّ “القوة ليست عسكرية فقط، بل ثقافية وأخلاقية تجذب الآخرين إلى صفك”. فإسرائيل تسوق نفسها كـ”دولة ديمقراطية مبتكرة” عبر أفلام هوليوود، و عبر التعاون الأكاديمي، و تصوّر الفلسطينيين كـ”متخلّفين” . بينما العالم العربي يفتقد لاستراتيجية قوة ناعمة ممنهجة، كما يلاحظ ناي في تحليله لضعف الدبلوماسية العامة العربية. و يرى “ناي” أن نجاح إسرائيل يعود لدمج القوة الصلبة (العسكرية) ، بالناعمة (الثقافة)، بينما العرب يعتمدون على الخطاب العاطفي فقط.
إنّ إسرائيل – كما الغرب – تصوغ صورة “الشرق” ككيان همجي وبدائي لتبرير هيمنته. فالصورة النمطية للفلسطيني، في الإعلام الغربي، يُصور كـ”إرهابي” أو”لاجئ سلبي”، بينما الإسرائيلي “ضحية/مستوطن شجاع”. و يأتي رد الفعل الإعلامي العربي مكرّسا ً خطابا ً دفاعيا ً، (مثل التركيز على “المؤامرة”)، بدلًا عن تفكيك الصور النمطية. لذلك، تُقمع الرواية الفلسطينية لأنها تُهدد السردية الاستعمارية الغربية.
معظم الأفراد يميلون إلى كتم آرائهم، إذا شعروا أنها غير مقبولة اجتماعيًا. فتبرز هنا “حلقة صامتة” ، تخاف من إشهار رأيها الداعم فلسطين، ففي الغرب، يُوصم الداعمون للفلسطينيين بـ”معاداة السامية”، مما يدفع الكثيرين للصمت (كما حدث في حملات التضامن مع غزة).و الإعلام العربي لا يوفر منصات آمنة للمؤيدين الدوليين، على عكس إسرائيل التي تُنظم حملات مثل #StandWithIsrael . إنّ السيطرة على الرأي العام تتطلب كسر “الحلقة الصامتة” عبر خطاب جريء ومتماسك.
و بناءً على ما تقدّم ، يتضح أننا كعرب بحاجة الى إسترانيجية إعلامية جديدة، ليس فقط لخدمة فلسطين، بل لخدمة كل قضايانا. و يمكننا تجاوز الإخفاق عبر:
إعادة تأطير الرواية و استخدام لغة القانون الدولي (مقارنة الاحتلال بنظام الفصل العنصري).
توظيف القوة الناعمة عبر إنتاج أفلام ومسلسلات تُعرض المعاناة الفلسطينية بلغة إنسانيةبناء منصات عربية دولية تستخدم الذكاء الاصطناعي لاستهداف الجماهير الغربية.
التعاون مع مثقفين غربيين لإعادة كتابة الرواية ، و تفكيك الإستشراق.
هذه الحلول تتطلب تحرر الإعلام العربي من التبعية السياسية، وتحويل القضية الفلسطينية من “همّ عربي” إلى “قضية عالمية” تُعنى بالعدالة الدولية.